كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قد أوجب اللّه القصاص في القتل في آية البقرة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى} [البقرة: 178] وأوجب الدية والكفارة في القتل الخطأ في الآية التي معنا، فيعلم أن الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد، لا ما يشمل الخطأ، وقد رأى مالك في بعض الروايات عنه أنّ القتل إما عمد وإما خطأ، ولا ثالث لهما، لأنّه إما أن يقصد القتل فيكون عمدا، أو لا يقصده فيكون خطأ، ولا واسطة، والكتاب يساعده.
أما سائر فقهاء الأمصار فقد أثبتوا واسطة بين العمد والخطأ، وهو شبه العمد، وإلى ذلك ذهب عمر وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة، ولا مخالف لهم من الصحابة، وحجتهم في إثباته أن النيات مغيّبة عنا، لا اطلاع لنا عليها، وإنما الحكم بما ظهر، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبا حكمنا بأنه عامد، لأنّ الغالب أنّ من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالبا كان مترددا بين العمد والخطأ، فأطلقنا عليه شبه العمد، وهذا بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر، إذ هو في الواقع إما عمد وإما خطأ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب، وقد أشبه الخطأ من جهة أنّ الآلة لا تقتل غالبا.
وقد استدلوا أيضا بما روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: ألا إنّ قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها، وهو حديث مضطرب عند أهل الحديث، ذكر أبو عمر بن عبد البر أنه لا يثبت من جهة الإسناد. ومالك رحمه اللّه يرى أنّ ما يسمى شبه عمد هو عمد يجب فيه القصاص، وقد روي عنه أيضا أنه يثبت شبه العمد، والذين أثبتوا شبه العمد اختلفوا فيما هو عمد وما هو شبه عمد على أقوال كثيرة، أشهرها ثلاثة:
1- قال أبو حنيفة: العمد ما كان بالحديد، وكل ما عدا الحديد من القضيب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد.
2- قال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله.
3- قال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل، أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل، فتولّد عنه القتل، والخطأ بما كان خطأ فيهما جميعا، والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا.
وما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه اللّه من جعل كلّ قتل بغير الحديد شبه عمد ضعيف، فإنّ من ضرب رأس إنسان بنحو حجر رحى فقتله، وادعى أنه ليس عامدا كان مكابرا، والمصلحة تقتضي بالقصاص في مثله، لأنّ اللّه شرع القصاص صونا للأرواح عن الإهدار، ولو كان القتل بالمثقّل لا قصاص فيه لارتكبه الناس، فشفوا نفوسهم بقتل أعدائهم، ونجوا من القصاص.
والفقهاء يعتمدون في إثبات العمد وشبهه والخطأ على الآلة التي بها القتل وأشياء أخرى ذكرت في الفروع، وكان مقتضى النظر أن يبحث في ظروف القتل، وما أحاط به من ملابسات، وفي قرائن الأحوال لنعلم نية القاتل: أهو عامد أم مخطئ، إلا أنهم رأوا أنّ نية القاتل لا اطلاع لنا عليها، فاكتفوا بالنظر في الآلة التي كان بها القتل، ونحن نوافق على أنّ نية القاتل لا اطلاع لنا عليها.
لكن ينبغي أن ننظر نظرا أوسع في جميع الملابسات المحيطة لنعلم نيته، ولعلّه لو قيل بذلك لم يكن بعيدا من الشريعة.
وقد أوجب اللّه في القتل الخطأ أمرين: عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن والشعبي فيها: لا تجزئ الرقبة إلا إذا صامت وصلّت. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يجزئ الصبيّ إذا كان أحد أبويه مسلما.
حجة الأولين أن اللّه شرط الإيمان فلابد من تحققه، والصبيّ لم يتحقق منه.
وحجة الآخرين: أنّ اللّه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} فيدخل فيه الصبيّ، فكذلك يدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} والرقبة قد ذكروا أنها على القاتل، فأما الدية فهي على العاقلة، وقد وردت أحاديث كثيرة تدلّ على أنّ الدية على العاقلة، والعاقلة قال الحجازيون: هم قرابته من جهة أبيه، وهم عصبته.
وقال الحنفية: العاقلة هم أهل ديوانه.
وحجة الحجازيين أنه تعاقل الناس في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وفي زمن أبي بكر، ولم يكن هناك ديوان، وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب، فإن قيل: كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته فيحملون الدية، واللّه يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} [الأنعام: 164] وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه».
وقال لأبي رمثة وابنه: «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه».
قلنا: إنّ هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره، لأنّ الدية على القاتل ابتداء.
وتحميل العاقلة إياها من باب المعاونة، وكما تعاونه العاقلة فتدي عنه، يعاونها هو فيدي عنها، وكما تتعاون القبيلة في النّصرة، فتدفع بنفسها العدوّ المغير، تتعاون بمالها، فيدي بعضها عن بعض، وقد كان تحمّل العاقلة الدية معروفا عند العرب، وكانوا يعدّونه من مكارم الأخلاق، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعث ليتمّم مكارم الأخلاق، والمعاونة والتناصر وتحمّل المغارم مما يقوّي الألفة، ويزيد في المحبة، وقد ورد من الأحاديث ما يدلّ على أنّ العاقلة تحمل الدية.
وروى المغيرة أنّ امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا فقضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على عاقلة الضاربة بالغرّة، فقام حمل بن مالك فقال: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل.
فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «هذا من سجع الجاهلية».
وقد ورد أنّ عمر رضي اللّه عنه قضى على عليّ بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعليّ كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها.
وقد ذهب أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج إلى أن الدية على القاتل لا على العاقلة، اعتمادا على ما ذكرناه من العمومات، وعلى أنّ قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ} يقتضي أنّ من يجب عليه هو القاتل، والذي يناسب أن يكون كذلك في الدية، وقد علمت أنّ الآثار مجمعة على أنّ الدية على العاقلة.
بقي أن يقال: إذا اختلف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض، وصار كل امرئ معتمدا على نفسه دون قبيلته، كما في النظام الحاضر، يكون الأوفق الأخذ برأي الأصم والخوارج أم برأي الجمهور؟
هذا محل اجتهاد، والحكمة في إيجاب اللّه الدية أن القاتل قد فوّت على أهل القتيل منفعتهم به، ولم يتعمّد قتله حتى يكون القصاص، فأوجب اللّه الدية مالا يدفع لورثة المقتول عوضا عما فاتهم من منافعه، وتطييبا لخواطرهم، فلا تتطلع نفوسهم للانتقام.
ومقدار دية الخطأ مختلف فيها فأما على أهل الإبل فمائة، منها- وهي مخمّسة- عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، عند مالك والشافعي.
وكذلك عند أبي حنيفة إلا أنه يجعل ابن اللبون ابن مخاض، وهي تؤجّل، تؤخذ نجوما على ثلاث سنين، وأما دية شبه العمد فهي مثلثة: منها أربعون خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة.
ومالك لا يقول بشبه العمد إلا في قتل الوالد لولده.
وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور من قوله.
وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد، وأما على أهل الذهب فألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم عند مالك، وعند العراقيين على أهل الورق عشرة آلاف درهم.
قال الشافعي بمصر: لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت، وقوله بالعراق مثل قول مالك.
ويدل للشافعي في قوله الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: كانت الديات على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين.
قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا.
وقد روى أهل السنن الأربعة عنه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إن دية المعاهد نصف دية المسلم».
ولفظ ابن ماجه: قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى.
واختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك: ديتهم نصف دية المسلمين في الخطأ والعمد، وقال الشافعي: ثلثها في الخطأ والعمد، وقال أبو حنيفة: بل كدية المسلم في الخطأ والعمد، وحجة مالك حديث عمرو بن شعيب، وحجة الشافعي أنّ عمر جعل ديته أربعة آلاف، وهي ثلث دية المسلم، وراعى أبو حنيفة أصله وهو جريان القصاص بين المسلم والذمي، فكما سوّى بينهما في القصاص سوّى بينهما في الدية.
والدية تأخذها ورثة المقتول، وهي كميراث يقضى منها الدين، وتنفّذ منها الوصية، وتقسّم على الورثة.
روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر: لا أعلم لك شيئا، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه، فشهد بعض الصحابة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمره أن يورّث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك.
{فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أوجب اللّه في المؤمن الساكن بدار الحرب إذا قتله مؤمن تحرير رقبة مؤمنة، دون الدية، وإنما حملنا الآية على ذلك، ولم تحملها على المؤمن الذي يتّصل نسبه بقوم عدو، وهو ساكن ببلاد الإسلام، لانعقاد الإجماع على وجوب الدية فيه.
{وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} جعل اللّه في قتل المعاهد ما جعله في قتل المسلم من الدية وتحرير الرقبة.
وحمل بعضهم الآية على المسلم الذي هو في قوم معاهدين، وليس بظاهر، لأنّه يكون تكرارا، إذ حكمه داخل في قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً}.
ولا معنى لإفراده، لأنه لم يخالف حكمه بخلاف المؤمن الذي هو في قوم عدو، فإنه أفرده، لأنّ حكمه يخالف الأول.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} يقول اللّه: فمن لم يملك رقبة، ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من اللّه، أي قبولا ورحمة منه من تاب اللّه عليه إذا قبل توبته، والعامل فيه محذوف. إما (شرع) أو (نقلكم) من العتق عند العجز إلى الصوم.
وفي التعبير بالتوبة إشارة إلى أنّ القاتل ملوم، وأنه كان ينبغي له أن يتحرّى، وقد أوجب اللّه في صيامه الشهرين التتابع، فلو أفطر يوما وجب الاستئناف، إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس أو مرض يمتنع معه الصوم.
{وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} فقد علم أنّ القاتل خطأ لم يتعمّد، فلذلك لم يؤاخذه، وعلم أنه فوّت على ورثة المقتول مصلحتهم بقتله، ففرض الدية تعويضا لهم، وهذا غاية في الحكمة والمصلحة.
قال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا (93)} يقول اللّه تعالى: ومن يقتل مؤمنا عامدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنّم باقيا فيها، وغضب اللّه عليه لما ارتكبه من هذا الجرم الفظيع، وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما.